فصل: تفسير الآية رقم (151)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الارض‏}‏ استئناف مسوق على ما قال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعدوا إراءته من دار الفاسقين، ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ أي سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم ارتفاعاً فـ العالم السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا أمثالهم، وقيل‏:‏ هو جواب سؤال مقدر ناشىء من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن المراد بالآيات ما تلي آنفاً ونظائره وبالصرف عنها إزالة المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع عليهما السلام، كأنه قيل‏:‏ كيف ترى دارهم وهم فيها‏؟‏ فقيل لهم‏:‏ سأهلكهم، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئناناً بها؛ وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام، والآية متعلقة إما بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سأوريكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ وإما بما تقدمه على الوجه الذي أشير إليه آنفاً، وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَرُّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ الخ على معنى الأمر كذلك؛ وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة، وقيل‏:‏ الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 100‏]‏ الآية، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد، وقيل‏:‏ إن الآية على تقدير كون الكلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتراض في خلاف ما سيق للاعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما وجد فرصة التمكن منه، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل، واحتج بالآية بعض أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وهو ظاهر على تقرير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس بمتعين كما علمت، وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه ذكرها الطبرسي ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ إما صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق ومآله يتكبرون غير محقين لأن التكبر بحق ليس إلا لله تعالى كما في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه

«الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار»‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أنهم يتكبرون على من لا يتكبر كالأنباء عليهم السلام لأنه الذي يكون بغير حق، وأما التكبر على المتكبر فهو بحق لما في الأثر التكبر على المتكبر صدقة، وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لا تكبر حقيقة فلعل مراد هذا القائل‏:‏ إن التقييد بما ذكر لإظهار أنهم يتكبرون حقيقة‏.‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا‏}‏ عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة، والمراد بالآية إما المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات، فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار، وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في الآفاق والأنفس، والآية هنا بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم الدور على ما قيل فليفهم، وجوز أن يكون عطفاً على سأصرف للتعليل على منوال قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وسليمان عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 15‏]‏ على رأي صاحب المفتاح، وأياً ما كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم أي كفروا بكل أية آية ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد‏}‏ أي طريق الهدى والسداد ‏{‏لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏ أي لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلاً لاستيلاء الشيطنة عليهم‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏الرشد‏}‏ بفتحتين، وقرىء ‏{‏الرشاد‏}‏ وثلاثها لغات كالسقم والسقم والسقام، وفرق أبو عمرو كما قال الجبائي بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الأمر والرشد بالفتح الاستقامة في الدين، والمشهور عدم الفرق ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى‏}‏ أي طريق الضلال ‏{‏يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏ أي يختارونه لأنفسهم مسلكاً مستمراً لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم ‏{‏ذلك‏}‏ أي المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم التام إلى سبيل الضلال حاصل ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي بسبب أنهم ‏{‏كَذَّبُواْ باياتنا‏}‏ الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها ‏{‏وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين‏}‏ غير معتدين بها فلا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، وجوز غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف، وما فيه من البحث يدفع بأدنى عناية كما لا يخفى على من مدت إليه العناية أسبابها، وأياً ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً عنه كما أشرنا إليه‏.‏

وقيل‏:‏ محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها، ولا مانع من كون العامل أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ باياتنا وَلِقَاء الاخرة‏}‏ أي لقائهم الدار الآخرة على أنه من إضافة المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء على أن الإضافة إلى الظرف على التوسع‏.‏ والمفعول مقدر كالفاعل ومحل الموصول في الاحتمالين الرفع على الابتداء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ خبره أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين بعدما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها، وحاصله أنهم لا ينتفعون بأعمالهم وإلا فهي أعراض لا تحبط حقيقة ‏{‏هَلْ يُجْزَوْنَ‏}‏ أي لا يجزون يوم القيامة‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي وتقدير هذا المضاف لظهور أن المجزي ليس نفس العمل، وقيل‏:‏ إن أعمالهم تظهر في صور ما يجزون به فلا حاجة إلى التقدير، وهذه الجملة مستأنفة، وقيل‏:‏ هي الخبر والجملة السابقة في موضع الحال بإضمار قد، واحتجت الأشاعرة على ما قيل بهذه الآية على فساد قول أبي هاشم أن تارك الواجب يستحق العقاب وإن لم يصدر عنه فعل الضد لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس به‏.‏

وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء، ورد بأن الجزاء ما يجزي أي يكفي في المنع عن المنهي عنه والحث على المأمور به والعقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي من بعد ذهابه إلى الجبل مناجاة ربه سبحانه ‏{‏مِنْ حُلِيّهِمْ‏}‏ جمع حلي كثدي وثدي وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة، والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض، وقيل‏:‏ للابتداء أيضاً، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه، وقيل‏:‏ الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالاً مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم وقيل‏:‏ إنها على ما يتبادر منها بناءً على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها منهم وهلكوا‏.‏ قال الإمام‏:‏ روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم‏.‏

واستشكل ذلك بكونه أمراً بأخذ مال الغير بغير حق، وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالاً لهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم» الحديث على أن ما نقل عن القوم في سورة طه ‏[‏87‏]‏ من قولهم‏:‏ ‏{‏حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم‏}‏ يقتضي عدم الحل أيضاً‏.‏

وأجيب بأن ذلك أن تقول‏:‏ إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما فيها، فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، وكان ذلك بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة، ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله، والقول المحكي سيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ عطف قصة على قصة‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏حُلِيّهِمْ‏}‏ بكسر الحاء اتباعاً لكسر اللام كدلي وبعض ‏{‏حُلِيّهِمْ‏}‏ على الأفراد وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عِجْلاً‏}‏ مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل، أخر عن المجرور لما مر آنفاً، وقيل‏:‏ إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أي إلهاً، والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الأروية غفر ولولد الضبع فرعل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص ولولد الضب حسل إلى غير ذلك، والمراد هنا ما هو على صورة العجل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَسَداً‏}‏ بدل من عجلاً أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسداً، وفسر ببدن ذي لحم ودم، قال الراغب‏:‏ الجسد كالجسم لكنه أخص منه، وقيل‏:‏ إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، ويقال أيضاً لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد، وجاء المجسد أيضاً بمعنى الأحمر، وبعض فسر الجسد به هنا فقال‏:‏ أي أحمر من ذهب ‏{‏لَّهُ خُوَارٌ‏}‏ هو صوت البقر خاصة كالثغار للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقباع للخنزير والمؤاء للهرة، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحنحمة للفرس والرغاء للناقة والصني للفيل والبتغم للظبي والضعيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصبىء للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك‏.‏

وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ‏{‏جؤار‏}‏ بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد، ومثله الصياح والصراخ‏.‏ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً وخوار مبتدأ، والجملة في موضع النعت لعجلاً‏.‏

روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حياً، وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى لأمر يريده عز وجل، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه عليه السلام لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر‏.‏ وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته، وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر‏.‏ وقال جمع من مفسري المعتزلة‏:‏ إن العجل كان بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خواراً‏.‏ وما في طه سيأتي إن شاء تعالى الكلام فيه‏.‏ واختلف في هذا الخوار فقيل‏:‏ كان مرة واحدة، وقيل‏:‏ كان مرات كثيرة، وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم‏.‏ وعن السدي أنه كان يخور ويمشي‏.‏ وعن وهب نفي الحركة، والآية ساكتة عن إثباتها، وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى، وليست هذه المسألة من المهمات، وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيراً ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال‏:‏ قتل بنو فلان قتيلاً والقاتل واحد منهم، وقيل‏:‏ لأن المراد اتخاذهم إياه إلهاً، فالمعنى صيروه إلهاً وعبدوه، وحينئذٍ لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعاً‏.‏

قال الحسن‏:‏ كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه السلام، واستثنى آخرون غيره معه، وعلى القول الأول قيل‏:‏ لا بد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ولأن المقصود إنكار عبادته ‏{‏خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏ تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، أي ألم يروا أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر، وجعله بعضهم تعريضاً بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا تجحد، وقيل‏:‏ إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه ‏{‏اتخذوه‏}‏ تكرار لجميع ما سلف من الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم، وهو من باب الكناية على أسلوب‏:‏

أن يرى مبصر ويسمع واع *** أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ ظالمين‏}‏ اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك، وقيل‏:‏ الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم إذا اشتد ندمه عض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها، وأصله سقط فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول به فصار سقط في يده كقولك‏:‏ مر بزيد، وقرأ ابن السميقع سقط بالبناء للفاعل على الأصل، واليد على ما ذكر حقيقة، وقال الزجاج‏:‏ معناه سقط الندم في أنفسهم وجعل القطب ذلك من باب الاستعارة التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في اليد ولا لطف للاستعارة التصريحية فيه، وقال الواحدي‏:‏ إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 10‏]‏ أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27‏]‏، وقيل‏:‏ من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، و‏{‏فِى‏}‏ بمعنى على، وقيل‏:‏ هو من السقاط وهو كثرة الخطأ، وقيل‏:‏ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له، فهو مثل لمن خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه، وعد بعضهم سقط من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏اسقط‏}‏ على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها الفراء‏.‏ والزجاج، وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول القرآن، ولم تعرفه العرب، ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي على الكثير وأخطأوا في استعماله كأبي حاتم‏.‏ وأبي نواس، وهو العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم ‏{‏أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ‏}‏ أي تبينوا ضلالهم باتخاذ العجل وعبادته كأنهم قد أبصروه بعيونهم قيل‏:‏ وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخراً عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية‏.‏

وقال القطب في بيان تأخير تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقاً عليه‏:‏ إن الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعياً في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به ثم تبينه، والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه انتهى، فافهم ولا تغفل ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا‏}‏ بإنزال التوبة المكفرة ‏{‏وَيَغْفِرْ لَنَا‏}‏ بالتجاوز عن خطيئتنا، وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية قيل‏:‏ إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم، واللام في ‏{‏لَئِنْ‏}‏ موطئة للقسم أي والله لئن الخ، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ لجواب القسم كما هو المشهور‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا‏}‏ بالتاء الفوقية و‏{‏رَبَّنَا‏}‏ بالنصب على النداء؛ وما حكى عنهم من الندامة والرؤية والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به ما سيأتي إن شاء الله تعالى في طاه، وقدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان‏}‏ مما حدث منهم ‏{‏أَسَفاً‏}‏ أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء‏.‏ ومحمد القرظي‏.‏ وعطاء‏.‏ والزجاج‏.‏ أو حزيناً على ما روي عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة رضي الله تعالى عنهم، وقال أبو مسلم‏:‏ الغضب والأسف بمعنى والتكرير للتأكيد‏.‏

وقال الواحدي‏:‏ هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، فعلى هذا كان موسى عليه السلام غضبان على قومه باتخاذهم العجل حزيناً لأن الله تعالى فتنهم، وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه، ونصب الوصفين على أنهما حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالاً من الضمير المستتر في الأول، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلاً من الحال الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم‏.‏

‏{‏قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى‏}‏ خطاب إما لعبدة العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما ما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعدما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه سبحانه وإخلاص العبادة له جل جلاله، أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا العبدة عما فعلوا بعد ما رأيتم مني من حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا ‏{‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر ‏{‏مِن بَعْدِى‏}‏ بعد ‏{‏خَلَفْتُمُونِى‏}‏ لأن المراد من بعد ولايتي وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما قيل بعد فراقه الدنيا، وقيل‏:‏ إن ‏{‏مِن بَعْدِى‏}‏ تأكيد من باب رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل بها، و‏{‏مَا‏}‏ نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها، وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر ‏{‏أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ‏}‏ أي أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم‏.‏ روي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل، وقال‏:‏ إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه قد مات‏.‏ وروي أنهم عدوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا‏.‏

والمعروف تعدي ‏{‏عَجَلٍ‏}‏ بعن لا بنفسه فيقال‏:‏ عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم يضمن ابتداء معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها‏.‏ وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين، والأمر واحد الأوامر‏.‏ وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين على ما ذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار الله تعالى إليها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏

‏{‏وَأَلْقَى الالواح‏}‏ أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه‏.‏ فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً‏.‏ وقال القاضي ناصر الدين‏:‏ أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين، ثم نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها، واعترض عليه أفضل المتأخرين شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما تقتضي احترام كتاب الله تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان بحيث تنكسر ألواحه ثم قال‏:‏ والصواب أن يقال‏:‏ إنه عليه السلام لفرط حميته الدينية وشدة غضبه لله تعالى لم يتمالك ولم يتماسك أن وقعت الألواح من يده بدون اختيار فنزل ترك التحفظ منزلة الإلقاء الاختياري فعبر به تغليظاً عليه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيآت المقربين انتهى‏.‏

وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لا يخفى أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولاً له لطرحها وهو غير صحيح، فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه بأن الفعل الواحد لا يتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع، والتوجيه الذي ذكر للآية هو ما أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لا ينافي ذلك على ما لا يخفى اه، وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما أراده القاضي غير بين ولا مبين على أن حديث كون التعبير بالإلقاء تغليظاً عليه عليه السلام منحط عن درجة القبول جداً إذ ليس في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه السلام ليفتي بهذا التغليظ نظراً إلى مقامه صلى الله عليه وسلم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له أدنى حظ من رفيع النظر، والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه أولاً‏.‏ وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب غضباً شديداً حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعاً لفعل قومه حيث كانت معاينته سبباً لذلك وداعياً إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه، وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله تعالى، ولعل ذلك من باب

‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 84‏]‏ واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع، وبعضهم أنكر ذلك حيث أن ظاهر القرآن خلافه‏.‏ نعم أخرج أحمد وغيره‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والبزار‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن حبان‏.‏ والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر» فتأمل ولا تغفل، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع، وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرا يقرأ الجزء منهفي سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر‏.‏ موسى‏.‏ ويوشع‏.‏ وعزير‏.‏ وعيسى عليهم السلام‏.‏ وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَخَذَ الالواح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏ فإن الظاهر منه العهد‏.‏ والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ‏}‏ أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليباً ‏{‏يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ظناً منه عليه السلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرياسة استقلالاً وكان هارون وزيراً له وكان عليه السلام حمولاً ليناً جداً ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرياسة وفرط الحمية، والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية الواقعة مما يأباه الذوق كما لا يخفى على ذويه، ومثله القول بأنه إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق، وقال أبو علي الجبائي‏:‏ إن موسى عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب، وقال الشيخ المفيد من الشيعة‏:‏ إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل‏:‏

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم *** فكأنني سبابة المتندم

ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى‏.‏ وجملة ‏{‏يَجُرُّهُ‏}‏ في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك، وضعفه أبو البقاء ‏{‏قَالَ‏}‏ أي هارون مخاطباً لموسى عليه السلام إزاحة لظنه ‏{‏ابن أُمَّ‏}‏ بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالمذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقييق، وقيل‏:‏ لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد، وقيل‏:‏ إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 53‏]‏ وكان مورده ومصدره ذلك، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة، ألا ترى كيف تلطق بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال‏:‏ ‏{‏يا قوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 90‏]‏ ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى، واختلف في اسم أمهما عليهما السلام فقيل‏:‏ محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل‏:‏ يوحانذ، وقيل‏:‏ يارخا، وقيل‏:‏ يازخت، وقيل‏:‏ غير ذلك، ومن الناس من زعم أن لاسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبو بكر عن عاصم هنا وفي طه ‏{‏ابن أُمَّ‏}‏ بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء‏.‏

وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو تشبيهاً بخمسة عشر ‏{‏إِنَّ القوم‏}‏ الذين فعلوا ما فعلوا ‏{‏استضعفونى‏}‏ أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري ‏{‏وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى‏}‏ وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك؛ والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهداً في منعهم ‏{‏فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء‏}‏ أي فلا تفعل ما يشمتون بي لأجله فإنهم لا يعلمون سر فعلك، والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء من مكروه‏.‏

وقرىء ‏{‏فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء‏}‏ بفتح حرف المصارعة وضم الميم ورفع الأعداء حطهم الله تعالى وهو كناية عن ذلك المعنى أيضاً على حد لا أرينك ههنا‏.‏ والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين‏}‏ أي لا تجعلني معدوداً في عدادهم ولا تسلك بي سلوكك بهم في المعاتبة، أو لا تعتقدني واحداً من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم، فالجعل مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية الاعتذار كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام عند اعتذار أخيه‏؟‏ فقيل‏:‏ قال ‏{‏رَبّ اغفر لِى‏}‏ ما فعلت بأخي قبل جلية الحال وحسنات الأبرار سيئات المقربين ‏{‏وَلاخِى‏}‏ إن كان اتصف بما يعد ذنباً بالنسبة إليه في أمر أولئك الظالمين، وفي هذا الضم ترضية له عليه السلام ورفع للشماتة عنه، والقول بأنه عليه السلام استغفر لنفسه ليرضي أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم لي فيه توقف ولا يخفى وجهه‏.‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنَا‏}‏ جميعاً‏.‏‏.‏

‏{‏فِي رَحْمَتِكَ‏}‏ الواسعة بمزيد الأنعام علينا، وهذا ما يقتضيه المقابلة بالمغفرة، والعدول عن ارحمنا إلى ما ذكر ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك الواسعة في الدنيا والآخرة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وادعى بعضهم أن فيه إشارة إلى أنه سبحانه استجاب دعاءه وفيه خفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين اتخذوا العجل‏}‏ أي بقوا على اتخاذه واستمروا عليه كالسامري وأشياعه كما يفصح عنه كون الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول الأول عبارة عن المصرين ‏{‏سَيَنَالُهُمْ‏}‏ أي سيلحقهم ويصيبهم في الآخرة جزاء ذلك ‏{‏غَضَبَ‏}‏ عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لعظم جريمتهم وقبح جريرتهم ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ أي مالكهم، والجار والمجرور متعلق بينالهم، أو بمحذوف وقع نعتاً لغضب مؤكداً لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن من ربهم ‏{‏وَذِلَّةٌ‏}‏ عظيمة ‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم‏}‏ وهي على ما أقول‏:‏ الذلة التي عرتهم عند تحريق إلههم ونسفه في أليم نسفاً مع عدم القدرة على دفع ذلك عنه، وقيل‏:‏ هي ذلة الاغتراب التي تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعاً، والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس، وروي أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حمجميعاً في الوقت، ولعل ما ذكرناه أولى والرواية لم نر لها أثراً، وإيراد ما نالهم بالسين للتغليب، وقيل‏:‏ وإليه يشير كلام أبي العالية المراد بهم التائبون، وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم، وبالذلة إسلامهم أنفسهم لذلك واعترافهم بالضلال، واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فإنه قال له‏:‏ ‏{‏سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ‏}‏ الخ فيكون سابقاً على الغضب، وجعل الكلام جواب سؤال مقدر وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادتهم العجل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏ والندم توبة ولذلك عقبوه بقولهم‏:‏ ‏{‏لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏ وذكر عتاب موسى لأخيه عليهما السلام ثم استغفاره اتجه لسائل أن يقول‏:‏ يا رب إلى ماذا يصير أمر القوم وتوبتهم واستغفار نبي الله تعالى وهل قبل الله تعالى توبتهم‏؟‏ فأجاب ‏{‏إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ‏}‏ أي نقم قبل توبة موسى وأخيه وغفر لهما خاصة وكان من تمام توبة القوم أن الله سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم فسلموها للقتل، فوضع الذين اتخذوا العجل موضع القوم إشعاراً بالعلية‏.‏ وتعقب بأن سياق النظم الكريم وكذا سباقه ناب عن ذلك نبواً ظاهراً كيف لا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نَجْزِى المفترين‏}‏ ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن وصفهم بعد ذلك بالافتراء وأيضاً ليس يجزي الله تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة إلا أن يقال‏:‏ يكفي في صحة التشبيه وجود وجه الشبه في الجملة ولا بد من التزام ذلك على الوجه الذي ذكرناه أيضاً؛ وما ذكر في تحرير السؤال والجواب مما تمجه أسماع ذوي الألباب‏.‏

وقال عطية العوفي‏:‏ المراد سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأريد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء، أو ما أصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم، وفي الكلام على هذا حذف مضاف وهو الأولاد، ويحتمل أن لا يكون هناك وهو من تعيير الأبناء بما فعل الآباء، ومثله في القرآن كثير‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم وبالغضب الغضب الأخروي وبالذلة الجزية التي وضعها الإسلام عليهم أو الأعم منها ليشمل ما ضربه بختنصر عليهم‏.‏ وتعقب ذلك أيضاً بأنه لا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والمراد بالمفترين المفترون على الله تعالى، وافتراء أولئك عليه سبحانه قول السامري في العجل ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏ ورضاهم به ولا أعظم من هذه الفرية ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم‏.‏ وعن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ كل صاحب بدعة ذليل وتلا هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏والذين عَمِلُواْ السيئات‏}‏ أي سيئة كانت لعموم المغفرة ولأنه لا داعي للتخصيص ‏{‏ثُمَّ تَابُواْ‏}‏ عنها ‏{‏مِن بَعْدِهَا‏}‏ أي من بعد عملها وهو تصريح بما تقتضيه ثم ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ أي واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه وبه وتمامه من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى، وهو عطف على تابوا، ويحتمل أن يكون حالاً بتقدير قد، وإياً ما كان فهو على ما قيل‏:‏ من ذكر الخاص بعدم العام للاعتناء به لأن التوبة عن الكفر هي الإيمان فلا يقال‏:‏ التوبة بعد الإيمان كيف جاءت قبله‏.‏

وقيل‏:‏ حيث كان المراد بالإيمان ما تدخل فيه الأعمال يكون بعد التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به هنا التصديق بأن الله تعالى يغفر للتائب أي ثم تابوا وصدقوا بأن الله تعالى يغفر لمن تاب ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا‏}‏ أي من بعد التوبة المقرونة بما لا تقبل بدونه وهو الإيمان، ولم يجعل الضمير للسيئات لأنه كما قال بعض المحققين لا حاجة له بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا‏}‏ لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف من عملها والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونه بعدها إلا ذلك ‏{‏لَغَفُورٌ‏}‏ لذنوبهم وإن عظمت وكثرت ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ مبالغ في إفاضة فنون الرحمة عليهم، والموصول مبتدأ وجملة ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ الخ خبر والعائد محذوف، والتقدير عند أبي البقاء لغفور لهم رحيم بهم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل‏:‏ الخطاب للتائب، ولا يخفى لطف ذلك أيضاً، وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجل، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له‏:‏

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة *** فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فبمن يلوذ ويستجير المجرم

ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا ربي لعفوك سلماً

تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظماً

ويعجبني قول بعضهم‏:‏ وما أولى هذا المذنب به‏:‏

أنا مذنب أنا مخطىء أنا عاصي *** هو غافر هو راحم هو عافي

قابلتهن ثلاثة بثلاثة *** وستغلبن أوصافه أوصافي

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب‏}‏ شروع في بيان بقية الحكاية أثر ما بين تحزب القوم إلى مصر وتائب، والإشارة ما لكل منهما إجمالاً، أي ولما سكت عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم، وهذا صريح في أن ما حكى عنهم من الندم وما بتفرع عليه كان بعد مجىء موسى عليه السلام، وقيل‏:‏ المراد ولما كسرت سورة غضبه عليه السلام وقل غيظه باعتذار أخيه فقط لا أنه زال غضبه بالكلية لأن توبة القوم ما كانت خالصة بعد، وأصل السكوت قطع الكلام، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل، وقال السكاكي‏:‏ إن فيه استعارة تبعية حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها، وقيل‏:‏ الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت استعارة تصريحية لسكون هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية، وإيا ما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لا يخفى علو شأنهما، وقال الزجاج‏:‏ مصدر سكت الغضب السكتة ومصدر سكت الرجل السكوت وهو يقتضي أن يكون سكت الغضب فعلاً على حدة؛ وقيل ونسب إلى عكرمة‏:‏ إن هذا من القلب وتقديره ولما سكت موسى عن الغضب، ولا يخفى أن السكوت كان أجمل بهذا القائل إذ لا وجه لما ذكره‏.‏

وقرأ معاوية بن قرة ‏{‏سَكَنَ‏}‏ والمعنى على ذلك ظاهر إلا أنه على قراءة الجمهور أعلى كعباً عند كل ذي طبع سليم وذوق صحيح، وقرىء ‏{‏سَكَتَ‏}‏ بالبناء لما لم يسم فاعله والتشديد للتعدية و‏{‏أسكت‏}‏ بالبناء لذلك أيضاً على أن المسكت هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون ‏{‏الغضب أَخَذَ الالواح‏}‏ التي ألقاها ‏{‏وَفِى نُسْخَتِهَا‏}‏ أي فيما نسخ فيها وكتب، ففعلة بمعنى مفعول كالخطبة، والنسخ الكتابة، والإضافة بيانية أو بمعنى في، وإلى هذا ذهب الجبائي وأبو مسلم وغيرهما، وقيل‏:‏ معنى منسوخة ما نسخ فيها من اللوح المحفوظ، وقيل‏:‏ النسخ هنا بمعنى النقل، والمعنى فيما نقل من الألواح المنكسرة‏.‏ وروي عن ابن عباس‏.‏ وعمرو بن دينار أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر صام أربعين يوماً فرد عليه ما ذهب في لوحين وفيهما ما في الأول بعينه فكأنه نسخ من الأول ‏{‏هُدًى‏}‏ أي بيان للحق عظيم ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ جليلة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح ‏{‏لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ أي يخافون أشد الخوف، واللام الأولى متعلقة بمحذوف وقع صفة لما قبله أو هي لام الرجل أي هدى ورحمة لأجلهم، والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 43‏]‏ أو هي لام العلة والمفعول محذوف أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والسمعة، واحتمال تعلقها بمحذوف أي يخشون لربهم كما ذهب إليه أبو البقاء بعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ تتمة لشرح أحوال بني إسرائيل، وقال البعض‏:‏ إنه شروع في بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها ‏{‏واختار‏}‏ يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل والأصل من قومه، ونحوه قول الفرزدق‏:‏

منا الذي اختير الرجال سماحة *** وجوداً إذا هب الرياح الزعازع

وقوله الآخر‏:‏

فقلت له‏:‏ اخترها قلوصاً سمينة *** ونابا علا بامثل نابك في الحيا

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَبْعِينَ رَجُلاً‏}‏ مفعول أول لاختار على المختار وأخر عن الثاني لما مر مراراً، وقيل‏:‏ بدل بعض من كل، ومنعه الأكثرون بناءاً على أن المبدل منه في نية الطرح والاختيار لا بد له من مختار ومختار منه وبالطرح يسقط الثاني، وجوزه أبو البقاء على ضعف ويكون التقدير سبعين منهم، وقيل‏:‏ هو عطف بيان ‏{‏لميقاتنا‏}‏ ذهب أبو علي‏.‏ وأبو مسلم وغيرهما من مفسري السنة والشيعة إلى أنه الميقات الأول وهو الميقات الكلامي قالوا‏:‏ إنه عليه السلام اختار لذلك من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين فقال عليه السلام‏:‏ ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال‏:‏ لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع، وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله تعالى أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً، وقيل‏:‏ كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين فذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه، وقال للقوم‏:‏ ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجداً فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وكان ما كان، وذهب آخرون وهو المروى عن الحسن إلى أنه غير الميقات الأول قالوا‏:‏ إن الله سبحانه أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من اختاره فلما أتوا الطور قالوا ما قالوا، وروي ذلك عن السدي، وعن ابن إسحاق أنه عليه السلام إنما اختارهم ليتوبوا إلى الله تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم‏.‏ ورجح ذلك الطيبي مدعياً أن الأول خلاف نظم الآيات وأقوال المفسرين‏.‏ أما الأول فلما قال الإمام‏:‏ إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضاً ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضاً ذكر في الأولى خرور موسى عليه السلام صعقاً، وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة‏:‏ ‏{‏لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم‏}‏، وأيضاً لو كانت الرجفة بسبب طلب الرؤية لقيل‏:‏ أتهلكنا بما قال السفهاء وضم إليه الطيبي أنه تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس فدل على التغاير، وأما الثاني فلما نقل عن السدي مما ذكرناه آنفاً، وتعقب ما ذكر في الترجيح أولاً صاحب الكشف بأن الإنصاف أن المجموع قصة واحدة في شأن ما من على بني إسرائيل بعد إنجائهم من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب الرؤية كان في تلك الأيام، وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الامتنان عليهم وتفضيلهم كيف وقد عطف

‏{‏واعدنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ على ‏{‏أنجيناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 141‏]‏ وقد بين أنه تبيين للتفضيل، وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلي‏.‏ والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة والافتراق من لوازم النظم، وتعقب ما ذكر فيه ثانياً بأن قول السدي وحده لا يصلح رداً كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم‏}‏ إنهم كانوا له وزراء مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت وأين ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ من الطاعة وحسن الاستئزار قال‏:‏ ثم الظاهر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ إن اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لا بد له من سند كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به، هذا وقد اعترف المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83‏]‏ وما اعتذر عنه الطيبي بأن اختيار السبعين كان مرتين وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف سقوطه انتهى‏.‏

وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار، وإن كان قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس، ثم قال‏:‏ ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها، وفي أخرى بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار اه، وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون، وأنا أقول‏:‏ إن القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الإنصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي أنه ظاهر في خلافه، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين‏.‏

فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعلم موسى أنهم أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم، قال أبو سعد‏:‏ فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى بن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة‏؟‏ فإنا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فلما أبوا إلا ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلاً فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم‏:‏ اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به الخبر‏.‏ وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول‏.‏ نعم إنه مخالف لما روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي في ذلك الحسن أيضاً فليس هو متفرداً بذلك كما ظنه صاحب الكشف، وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز المنع، وقوله‏:‏ فإنا لن نؤمن لك الخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات، والقول بأن الاختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم، وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتض تعين الشق الأول منه‏.‏ فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال‏:‏ انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال‏:‏ ‏{‏مَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83‏]‏ فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 85‏]‏ الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا ثم أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعداً فاختار موسى سبعين رجلاً الخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، والقول بأنه لا معنى للاعتذار بعد قل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلباً لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة، ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيداً للإيذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغاً في السوء لا يكفي في العفو عنه قتل الأنفس بل لا بد فيه مع ذلك الاعتذار، ويمكن أن يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم‏:‏ والسر في أنهم أمروا به أن يعلموا أيضاً عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله والله تعالى أعلم ‏{‏فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعاً ثم أحياهم الله تعالى، وقيل‏:‏ غشي عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا‏:‏

‏{‏لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ على ما في بعض الروايات أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي، والظاهر أن قولهم‏:‏ لن نؤمن الخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل‏:‏ ونقلناه في البقرة وحينئذٍ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فكون هذا الطلب بعده، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام‏.‏ وما أخرجه ابن أبي الدنيا‏:‏ وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ لما حضر أجل هارون أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا قابضو روحه فانطلقوا جميعاً فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال‏:‏ ما أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له‏:‏ أين هارون‏:‏ قال مات‏؟‏ قالوا‏:‏ بل قتلته كنت تعلم إنا نحبه فقال لهم‏:‏ ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله تعالى وزيراً ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني‏.‏ قالوا بلى‏:‏ قتلته حسداً، قال‏:‏ فاختاروا سبعين رجلاً فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطاً فانطلق هو وابن هارون‏.‏ وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال‏:‏ يا هارون من فتلك‏؟‏ قال‏:‏ لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا‏:‏ ما تعصى يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ‏}‏ عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جرياً على مقتضى كرمك وإنما قال‏:‏ ‏{‏وإياي‏}‏ تسليماً منه وتواضعاً، وقيل‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضاً حين طلبت منك الرؤية، وقيل‏:‏ حين قتل القبطي لأهلكتنا، وقيل‏:‏ هو تمن منه عليه السلام للإهلاك جميعاً بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلاً أو بسبب آخر وفيه دغدغة ‏{‏أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا‏}‏ من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل، والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عز وجل كما قال ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا، وإيا ما كان فهو من مقول موسى عليه السلام كالذب قبله، وقول بعضهم‏:‏ كان ذلك قاله بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه، والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه، ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دوه فافهم ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ‏}‏ استئناف مقرر لما قبله واعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة للسياق أي ما الفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام‏:‏ إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال‏:‏ يا رب فمن جعل فيه الروح‏؟‏ قال‏:‏ أنا قال‏:‏ فأنت أضببتهم يا رب قال‏:‏ يا رأس النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، ولعل هذا اشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، وروي هذا عن الربيع‏.‏ وابن جبير‏.‏ وأبي العالية، وقيل‏:‏ الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر‏.‏

‏{‏تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء‏}‏ استئناف مبين لحكم الفتنة، وقيل‏:‏ حال من المضاف إليه أو المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو باتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها إيمانه، وقيل‏:‏ المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء، وقيل‏:‏ تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء وهو كما ترى ‏{‏أَنتَ وَلِيُّنَا‏}‏ أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية لا غيرك ‏{‏فاغفر لَنَا‏}‏ ما يترتب عليه مؤاخذتك ‏{‏وارحمنا‏}‏ بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا، والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية لأن من شأن من يلى الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع، وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية، وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى، والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ‏}‏ جرأة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق، ولا أظن أن الله تعالى عد ذلك ذنباً منه ليستغفره عنه، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك‏.‏

‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين‏}‏ إذا كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل، وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم‏.‏

وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلاً لأغفر وارحم معا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏واكتب لَنَا‏}‏ أي أثبت واقسم لنا ‏{‏فِى هذه الدنيا‏}‏ التي عرانا فيها ما عرانا ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ حياة طيبة وتوفيقا للطاعة‏.‏

وقيل‏:‏ ثناءاً جميلاً وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏ أي واكتب لنا أيضاً في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة‏.‏

قيل‏:‏ إن هذا كالتأكيد لقوله‏:‏ اغفر وارحم ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال‏:‏

إني امرىء مما جنيت هائد *** ومن كلام بعضهم‏:‏

يا راكب الذنب هدهد *** واسجد كأنك هدهد

وقيل‏:‏ معناه مال، وقرأ بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏هُدْنَا‏}‏ بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال‏:‏ والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول‏:‏ عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري‏.‏ وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجوب أن يأتي بحركة تزيله فيقال‏:‏ عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الاشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لاظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها ‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء‏}‏ أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وعمرو الأسود ‏{‏مِنْ أَسَاء‏}‏ بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها ‏{‏وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء‏}‏ أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضي الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضاً، وعدم التصريح بها قيل‏:‏ تعظيماً لأمر الرحمة، وقيل‏:‏ للاشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا‏}‏ فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل‏:‏ فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتاً خاصاً ‏{‏لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ أي الكفر والمعاصي أما ابتداءاً أو بعد الملابسة ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع انافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفار منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها ‏{‏والذين هُم بئاياتنا‏}‏ كلها كما يفيده الجمع المضاف ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ إيماناً مستمراً من غير اخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفاً على ما قبله كما سلك في سابقه قيل‏:‏ لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعرض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام‏.‏

واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام‏:‏ لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال‏:‏ ‏{‏واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً‏}‏ أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال‏:‏ أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعا موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه، وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فاعطاها محمداً صلى الله عليه وسلم وتلا الآية، لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد‏.‏ وقال صاحب الكشف في ذلك‏:‏ كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين ان شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري‏.‏

وقال العلامة الطيبي في توجيهه‏:‏ إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَذَابِى‏}‏ الخ كالتمهيد للجواب، والجواب ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا‏}‏ الخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله‏:‏ ‏{‏واكتب لَنَا‏}‏ وعلله بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا ينفعهم دعاؤك لهم وإن رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا‏}‏ كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جواباً عن قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن‏.‏ وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة اه ما أريد منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد‏.‏ وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال‏:‏ «جاء اعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام‏:‏ لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وانسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون»‏.‏ وأنا أقول‏:‏ قد يقال‏:‏ إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلاً عن مثله عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم؛ وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو هو وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحي إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك‏؟‏ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو اسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقي فيه، ويكفي في ذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وحينئذ فيمكم أن يقال في توجيه الجواب‏:‏ أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له‏:‏ ‏{‏عَذَابِى‏}‏ أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسى إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضاً له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله ‏{‏وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء‏}‏ إنساناً كان أو غيره مطيعاً كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أني لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرعينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلى ووفدوا على أفتري أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفى حنين فيرحع كل منهم صفر الكفين‏؟‏ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذخب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الخ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار النظم الكريم؛ ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال‏:‏ قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختياراً لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله‏:‏ خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل‏.‏ والسين في ‏{‏سأكتبها‏}‏ يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفي وجهه على ذوي الكمال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول‏}‏ الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام ‏{‏النبى‏}‏ أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى الله تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق، وقدم الأول عليه لشرف وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه، وإلى هذا ذهب بعضهم، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لاجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏، وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له معجزة، ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم‏.‏ وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كاسمعيل‏.‏ ولوط‏.‏ والياس عليهم السلام وكم وكم ثم قال‏:‏ والتحقيق أن النبي هو الذي ينبىء عن ذاته تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة بشر، والرسول هو المأمور مع ذلك باصلاح النوع، فالنبوة نظر فيها إلى الأنبار عن الله تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم، والثناي وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولاً نبيا مثل انسان هيوان اه‏.‏

وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولاً، ولا حجر في الاعتبار‏.‏ نعم ما ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال، واما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان‏.‏ وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما‏.‏

ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلى الله عليه وسلم ‏{‏النبى الامى‏}‏ أي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك‏.‏ وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال‏:‏ «قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» أو إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك، ونسب ذلك إلى الباقر رضي الله تعالى عنه أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته امه عليها، ووصف عليه الصلاة والسلام بذلك تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله احدى معجزاته صلى الله عليه وسلم فهو بالنسبة إليه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام صفة مدح، وأما بالنسبة إلى غيره فلا، وذلك كصفة التكبير فإنها صفة مدح لله عز وجل وصفة ذم لغيره‏.‏

واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة أيضاً له صلى الله عليه وسلم وظاهر الحديث يقتضيه، وقيل‏:‏ لم يصدر عنه أصلاً وإنما أسندت إليه في الحديث مجازاً‏.‏

وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أنه صلى الله عليه وسلم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها، ولم أر لذلك سنداً يعول عليه، وهو صلى الله عليه وسلم فوق ذلك‏.‏ نعم أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال‏:‏ «ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى قرأ وكتب فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال‏:‏ صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك» وقيل‏:‏ الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب ‏{‏الامى‏}‏ بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضاً، والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول، هو أما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم، وجوز أن يكون نعتاً له، ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل‏:‏ على أنه مبتدأ خبره جملة ‏{‏يَأْمُرُهُم‏}‏ أو ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ وكلاهما خلاف المتبادر من النظم ‏{‏الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا‏}‏ باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو، ولذلك عدل عن أن يقال‏:‏ يجدون اسمه أو وصفه مكتوباً ‏{‏عِندَهُمُ‏}‏ ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون، وذكر لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا يغيب عنهم أصلا ‏{‏فِي التوراة والإنجيل‏}‏ اللذين يعتمد بهما بنو اسرائيل سابقاً ولاحقاً، وكأنه لهذا المعنى اقتصر عليهما وإلا فهو صلى الله عليه وسلم مكتوب في الزبور أيضاً، أخرج ابن سعد‏.‏ والدارمي في مسنده‏.‏ والبيهقي في الدلائل‏.‏ وابن عساكر عن عبد الله بن سلام قال‏:‏ «صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقيضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا لا آله إلا الله ويفتح أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً»، ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء من حديث أخرجه ابن سعد‏.‏ وابن عساكر من طريقذ موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال‏:‏ «قرأت في الإنجيل محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم لا يقبل الصدقة وبركب الحمار‏.‏

والبعير ويحلب الشاة ويلبس قميصاً مرقوعاً ومن فعل ذلك فقد برىء من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد»‏.‏

وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال‏:‏ «إن الله تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم باجلهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمداً وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم اضعافاً مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏ الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلاً وإما أن أصرف عنهم سوءاً وإما أن أدخره لهم في الآخرة، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني وقد كذب محمداً وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار» إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلى الله عليه وسلم مكتوب في الكتب الإلهية‏.‏ والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا‏.‏ وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما‏.‏

‏{‏يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر‏}‏ كلام مستأنف، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالاً إذا ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة والواسعة، وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من النبي أو من المستكن في مكتوباً، وقيل‏:‏ هو مفسر لمكتوبا أي لما كتب، والمراد بالمعروف قيل الإيمان، وقيل‏:‏ ما عرف في الشريعة، والمراد بالمنكر ضد ذلك ‏{‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث‏}‏ فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس وستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة‏.‏

وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه‏.‏ وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي، وجوز بعضهم كون الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعاً أو ما خبث شرعاً وقال كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبينا على اقتضاء التحليل سبق التحريم والشحم كان محرماً عند بني اسرائيل، وعلى اقتضاء التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن الأصل في الأشياء الحل، ولا يرد ‏{‏أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ لأنه لرد قولهم ‏{‏إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ أو لأن المراد ابقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا، ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة ‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثواب أو منه ومن البدن، واحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وان لم يكن مأموراً به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديداً عليهم على ما قيل، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك، والاغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضاً، ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضاً، والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف، ولا يخفى ما في الآية من الاستعارة‏.‏

وجوز أن يكون هناك تمثيل، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة وعلى هذا فالاغلال يمكن أن يراد حقيقته، وقرأ ابن عامر ‏{‏آصارهم‏}‏ على الجمع وقرأ ‏{‏عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ‏}‏ بالفتح على المصدر وبالضم على الجمع أيضاً ‏{‏فالذين ءامَنُواْ بِهِ‏}‏ أي صدقوا برسالته ونبوته ‏{‏وَعَزَّرُوهُ‏}‏ أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عتهما، وقال الراغب‏:‏ التعزير النصرة مع التعظيم، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأذيب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا قال في الحديث‏:‏ «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقيل كيف أنصره ظالماً‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ تكفه عن الظلم» وأصلح عند غير وأحد المنع والمراد منعوه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرىء ‏{‏عزروه‏}‏ بالتخفيف ‏{‏وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ‏}‏ على أعدائه في الدين وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب المصالح، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الراغب قال هنا نصروه لي أي قصدوا بنصره وجه الله تعالى واعلاء كلمته فلا تكرار خلافاً لمن توهمه ‏{‏واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ‏}‏ وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه باعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور، والظرف اما متعلق بانزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو ارساله عليه السلام لأنه لم ينزل معهم وإنما نزل مع جبريل عليه السلام‏.‏

نعم استنباؤه أو ارساله كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به وإما متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له في اتباعه وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني، وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل‏.‏ وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو متعلق بأنزل ولم يشتهر وروي ذلك، وقال بعضهم‏:‏ هن هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه ‏{‏أولئك‏}‏ أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة ‏{‏هُمُ المفلحون‏}‏ أي هم الفائزون يا لمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم، وكاف البعد للايذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند ابن عباس رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى وهو الأولى عندي‏.‏

وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ المعنى الأعم أيضاً وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين، وفيه ما فيه ومما يقضي منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلى الله عليه وسلم الجليلة الشان، وقيل‏:‏ على كتب الرحمة لمن مر، وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين ءثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام إياهم بما في ضمن ‏{‏يَأْمُرُهُم‏}‏ الخ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال‏:‏ فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة، وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر